يجمع الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics بين الأفكار المستوحاة من علم النفس والاقتصاد، حيث يمكن أن يقدم رؤية قيّمة تقول بأن الأفراد لا يتصرّفون وفق ما تمليه عليهم مصلحتهم الخاصّة.
ما هو الفرق بين الاقتصاد التقليدي والاقتصاد السلوكي؟
يشرح الاقتصاد التقليدي كيف يتخذ الناس القرارات عندما يمتلكون جميع المعلومات المتاحة حيث يمكن أن يستغرقوا وقتًا للتفكير بعقلانية في خياراتهم.
ومع ذلك، غالبًا ما تكون خيارات العالم الحقيقي محدودة بعديد من العوامل مثل عدم اليقين والمخاطر، مما يؤدي إلى ظهور سلوك قد يبدو غير منطقي خارج السياق.
في حين أن علم الاقتصاد السلوكي يقدّم رؤى حول كيفية اتخاذ الناس لقرارات أفضل في ظل هذه القيود.
ما هي أهمية الاقتصاد السلوكي ؟
بالإضافة إلى تقديم نظرة أعمق حول ما يحفز السلوك البشري، يمكن أن يساعد فهم الاقتصاد السلوكي الأشخاص على ممارسة قدر أكبر من التحكم في النفس وتطوير عادات صحية (على سبيل المثال، ممارسة المزيد من الرياضة أو شرب كميات أقل).
في كثير من الأحيان، يمكن أن يساعدهم أيضًا في التفكير بأهدافهم المستقبلية وبالتالي اتخاذ قرارات أفضل وعدم الاستسلام للحوافز.
يوفّر علم الاقتصاد السلوكي إطار عمل يساعد في فهم متى وكيف يرتكب الناس الأخطاء.
إنّ الأخطاء أو التحيزات المنهجية تتكرر بشكل متوقّع في ظروف معينة.
كما يمكن استخدام الدروس المستفادة من علم الاقتصاد السلوكي لخلق بيئات تدفع الأشخاص نحو اتخاذ قراراتٍ أكثرَ حكمةً وحياة أكثر صحّةً.
يستخدم علم الاقتصاد السلوكي أيضًا لفهم الخصائص النفسية للبشر مع مراعاة سبب انحراف الناس عن الإجراءات العقلانية عندما يتخذون القرارات.
وفي نموذج العمل العقلاني الذي يفترضه الاقتصاد التقليدي، يُتوقع من الشخص أن يحسب فوائد العمل وعيوبه ثم يختار الخيار لمصلحته الذاتية.
حيث تُستخدم النظريّات الاقتصاديّة السلوكيّة لتفسير معظم القرارات اليومية، مثل ما يشتريه الناس، وكيف يديرون شؤونهم المالية، وما إذا كانوا يتخذون خيارات أسلوب حياة صحية أم لا.
ابتكر الاقتصادي الأمريكي وعالم النفس المعرفي هربرت أ. سيمون نظرية العقلانية المحدودة Bounded rationality، التي تشرح كيف أن عقلانية الناس محدودة بالإطار الزمني، وبمواردهم المعرفية، ومستوى صعوبة القرار.
وقال سيمون إن صناع القرار يبحثون في كثير من الأحيان عن حل مرضٍ بدلاً من الحل الأمثل.
ظهر الاقتصاد السلوكي على خلفيّة النهج الاقتصاديّ التقليديّ المعروف باسم نموذج الاختيار العقلاني The Rational Choice Theory، والّذي يفترض أن الشخص العقلاني يحسب التكاليف والمنافع بشكل صحيح ويحسب أفضل الخيارات لنفسه.
ومن المتوقّع أن يعرف الشخص العقلاني تفضيلاته (الحالية والمستقبلية)، ولا يتقلب أبدًا بين رغبتين متناقضتين.
كما أنه يمتلك تحكّم كامل في النفس، ويمكنه كبح الدوافع التي قد تمنعه من تحقيق أهدافه طويلة المدى.
دانيال كانمان عالم النفس المعرفي الحائز على جائزة نوبل (الذي ابتكر أيضًا أنظمة التفكير السريعة والبطيئة) وطوّر مع أموس تفرسكي نظرية الاحتمالات Prospect Theory، التي توضح كيف يتم اتخاذ القرار غير العقلاني من خلال علم النفس السريري.
حيث تتكوّن نظرية الاحتمال من مرحلتين: مرحلة التحرير؛ حيث يتم تطبيق الاستدلال أو الاختصارات العقلية في المواقف الخطرة، ومرحلة التقييم؛ حيث يتم استخدام المبادئ النفسية مثل كره الخسارة والاعتماد المرجعي لتحليل البدائل الخطرة.
كانت هذه النظريات مصدر إلهام قادنا لفهم أفضل لصنع القرار غير العقلاني كما أنه أدى لظهور المزيد من التطورات في الاقتصاد السلوكي.
كما حدّد الاقتصادي الأمريكي والحائز على جائزة نوبل ريتشارد ثالر المحاسبة العقلية على أنها العملية التي يقوم الناس من خلالها بترميز النتائج الاقتصادية وتصنيفها وحسابها.
وطوّر ثالر أيضًا نظرية التنبيه Nudge لاستكشاف كيف يمكن أن تتأثر خيارات الأشخاص (التي تم تنبيهها “nudged”) من قبل الأفراد والمنظمات الذين يستفيدون من التأطير والاستدلال.
يستخدم علم الاقتصاد التقليدي هذه الافتراضات للتنبؤ بالسلوك البشري الحقيقي.
إنّ نصيحة السياسة التقليدية التي تنبع من طريقة التفكير هذه، هي إعطاء الناس أكبر عدد ممكن من الخيارات، والسماح لهم باختيار الخيار الذي يفضلونه (مع الحد الأدنى من التدخل الحكومي)، لأنهم يعرفون خياراتهم بشكل أفضل من المسؤولين الحكوميين. كما أنّ الأفراد يكونون في أفضل وضع لمعرفة ما هو الأفضل بالنسبة لهم.
في المقابل، يُظهِر علم الاقتصاد السلوكي أن الأشخاص الواقعيّين لا يتصرفون بهذه الطريقة. كما يمتلك الأشخاص قدرات معرفية محدودة وقدرًا كبيرًا من المتاعب في ممارسة ضبط النفس.
وغالبًا ما يتخذ الأشخاص خيارات تحمل علاقة مختلطة لخياراتهم الخاصة (السعادة).
كما يميل الأفراد إلى اختيار الخيار الذي يتمتع بأكبر جاذبية فورية على حساب السعادة على المدى الطويل، مثل تعاطي المخدرات أو الإفراط في تناول الطعام.
غالبًا ما يتأثّر الأشخاص بالسياق، كما يكون لديهم فكرة صغيرة عما سيفضلونه في العام المقبل أو حتى غدًا.
وكما قال دانيال كانمان (2011، ص 5)، “يبدو أن الاقتصاد التقليدي والاقتصاد السلوكي يصفان نوعين مختلفين”.
حيث يظهر الاقتصاد السلوكي بأننا بشر متناقضون بشكل استثنائي وعرضة للخطأ. كما نختار هدفًا ثم نتصرف في الكثير من الأحيان ضدّه لأن ضبط النفس يمنعنا من تنفيذ أهدافنا.
يتتبع علم الاقتصاد السلوكي أخطاء اتخاذ القرار وحتى تصميم العقل البشري.
حسب علماء الأعصاب فإنّ العقل يتكون من العديد من الأجزاء المختلفة (العمليات العقلية)، كل منها يعمل بمنطقه الخاص (Kurzban، 2011).
في حين يشير Brocas وCarrillo في دراستهما (2013) إلى أنّ أفضل تمثيل للدماغ هو منظمة النظم التي تتفاعل مع بعضها البعض.
والفكرة الرئيسية هي أن الدماغ ديمقراطي (Tononi، 2012)، أي أنه لا يوجد صانع قرار مهيمن.
على الرغم من أنه يمكن القول بأن الهدف السلوكي للفرد هو زيادة السعادة، إلا أن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب مساهمات من العديد من مناطق الدماغ.
يحاول علم الاقتصاد السلوكي دمج مفاهيم علماء النفس الخاصة بالسلوك البشري عن التحليل الاقتصادي.
في هذا الصدد، يوازي علم الاقتصاد السلوكي علم النفس المعرفي، الذي يحاول توجيه الأفراد نحو سلوكيات أكثر صحة من خلال تصحيح الحواجز المعرفية والعاطفية لتحقيق المصلحة الذاتية الحقيقية (لوينشتاين وهاجسي، 2008).
أخيرًا، يقترح علم الاقتصاد السلوكي الطرق التي يمكن من خلالها لصانعي السياسات إعادة هيكلة البيئات لتيسير الاختيارات الأفضل (Sunstein، 2014).
كما يشير التركيز على الأخطاء إلى الطرق التي يمكن بها لصانعي السياسات إعادة هيكلة البيئات لتيسير الاختيارات الأفضل.
على سبيل المثال، إن مجرد إعادة ترتيب المواد المعروضة حاليًا داخل المدرسة يشجع الأطفال على شراء المزيد من المواد المغذية (على سبيل المثال، وضع الفاكهة على مستوى العين، أو جعل الخيارات أقل ملاءمة عن طريق نقل آلات الصودا إلى مناطق بعيدة، أو مطالبة الطلاب بدفع مبالغ نقدية مقابل الحلوى والمشروبات الغازية).
خلاصة القول، إن الرسالة الأساسية للاقتصاد السلوكي هي أن البشر يرتكبون العديد من الأخطاء عند اتخاذ قراراتهم ويحتاجون إلى تنبيه لاتخاذ قرارات تصب في مصلحتهم الخاصة.
كما يمكن أن يساعد فهم المكان الذي يخطئ فيه الأشخاص على تحسين العوامل التي تساهم في اتخاذ القرار. كما أن هذا النهج يكمل ويعزز نموذج الاختيار العقلاني.
هل تعمل الحوافز الاقتصادية على تغيير السلوك؟
تستخدم العديد من المنظمات الحوافز الاقتصادية لتحقيق هدف سلوكي.
يمكن أن تكون هذه الحوافز إيجابية (على سبيل المثال، مكافأة عمل) أو سلبية (على سبيل المثال، غرامة على السلوك السيء).
في كثير من الأحيان، تعطي هذه الحوافز نتائج عكسية أي تحويل التبادل الاجتماعي إلى التبادل الاقتصادي.
يجب أن تكون الحوافز قابلة للتحقيق والتقدم على حد سواء لتكون فعالة في تغيير السلوك.
اللاعقلانية والاقتصاد السلوكي
بدلاً من اتخاذ الخيارات المثلى، غالبًا ما يتصرف الناس بطرق تبدو غير منطقية وحتى ضد مصالحهم الخاصة.
يشرح علم الاقتصاد السلوكي سبب قيام الأفراد باختيار خيارات غير منطقية من خلال توضيح كيفية تأثر عملية صنع القرار الخاصة بهم بما يلي:
- التحيزات (مثل الخصم المستقبلي)
- العواطف
- الاستدلال الخاطئ
- الإرهاق عصبي
- كره الخسارة
- تعدد الخيارات
- الأنماط الاجتماعية المميزة
- إطار الموقف
- السياق
علاوةً على ذلك، يجب اتخاذ العديد من القرارات في ظل ظروف من عدم اليقين الشديد، حيث لا يُعرف الكثير عن جميع مخاطر ومزايا الاختيار أو حيث تتغير هذه الميزات باستمرار.
لذلك يهدف علم الاقتصاد السلوكي إلى فهم آثار عدم اليقين على صنع القرار في مجالات مثل شراء المستهلك والمدخرات المالية وتغيير نمط الحياة.
بعض الأمثلة على التحيز في الاقتصاد السلوكي
ينطوي تحيز رد الفعل اللاإرادي knee-jerk bias على اتخاذ قرارات سريعة وغريزية بدلاً من قضاء بعض الوقت في دراسة الموضوع.
مع تحيز نصل أوكام Occam’s razor bias، يفترض الشخص أن الحل الأكثر وضوحًا هو الأفضل.
كما يأخذ تأثير الصومعة silo effect نهجًا ضيقًا جدًا في اتخاذ القرارات.
ويركز انحياز التأكيد confirmation bias على المعلومات التي تؤكد مجموعة معينة من المعتقدات والافتراضات.
وقد يستسلم الأفراد أيضًا لتحيز الكسل والقصور الذاتي inertia bias – التفكير والتصرف بطرق مألوفة ويمكن التنبؤ بها – أو تحيز قصر النظر myopia bias – لتفسير العالم من خلال العدسة الضيقة لتاريخهم الشخصي والعاطفي.
اقرأ أيضًا: كتب في الاقتصاد السلوكي
ما هي المشكلة الرئيسية في استخدام الاستدلال لحل المشاكل؟
للحفاظ على الموارد المعرفية، قد يستخدم الناس الأساليب البحثية لتعريف عملية صنع القرار.
ومع ذلك، قد تكون هذه الاختصارات العقلية mental shortcuts، التي غالبًا ما تستند إلى التعميمات والخبرة الذاتية، والتي غالبًا ما تكون محدودة أو خاطئة.
ونتيجةً لذلك، يتّخذ الناس قرارات تستند إلى معلومات غير كاملة وبالتالي من المحتمل أن يكونوا مخطئين بنفس احتمال أن يكونوا على حق.
بعض الأمثلة على الاستدلال الذي يؤدي إلى اختيارات غير منطقية
في الاستدلال بالوفرة availability heuristic يميل الأشخاص إلى إسناد حكمهم لمدى سهولة تذكّر المعلومات ذات الصلة.
مع الاستدلال التمثيلي representativeness heuristic، يتخذ الناس قرارات خاطئة بشكل عام، لأنهم يخطئون في تجربتهم كممثلين لمدى احتمال وجود شيء ما في بقية العالم.
كما يستخدم الارتساء anchoring جزءًا أوليًا من المعلومات كمثبت يتم من خلاله الحكم على جميع المعلومات الأخرى، حتى إذا كانت خاطئة أو معيبة.
كما يتضمن الاستدلال المُؤثر affect heuristic اتخاذ قرار بناءً على الحالة العاطفية الحالية.
هل يؤدي وجود الكثير من الخيارات إلى ضعف في عملية صنع القرار؟
غالبًا ما يكون الأشخاص مقيّدين بوقت اتخاذ القرار. فعند توفر عدد كبير جدًا من الخيارات، لا يمكن اتخاذ خيار عقلاني – يمكنك ببساطة جمع المعلومات إلى الأبد.
نتيجةً لتعدد الخيارات هذا، يمكن للأشخاص تجربة ضعف القرار، والتعب العقلي، وخيبة الأمل أو عدم الرضا عن اختيارهم.
كيف يمكنك التأثير على سلوك الأشخاص؟
يميل العديد من الأشخاص إلى اختيار خيار يجلب المتعة الفورية، بدلاً من الخيار الذي سيحقق الرضا على المدى الطويل على حساب الإشباع على المدى القصير.
باستخدام الاقتصاد السلوكي، يمكن للأفراد والمؤسسات الاستفادة من هذا للتلاعب بالأشخاص في مسار معين من العمل أو الشراء.
إحدى الطرق التي يمكن أن يتأثر بها الشخص هي من خلال “التنبيه”، وهو مزيج من التعزيز الإيجابي والاقتراحات غير المباشرة التي تشجّع سلوكيات معيّنة.
ليست جميع هذه التلاعبات ضارّة، حيث يمكن استخدام الاقتصاد السلوكي لدفع الناس إلى إجراء تغييرات سلوكية إيجابية، مثل تناول كميات أقل أو توفير المزيد من المال.
ما هي نظرية التنبيه؟
في كتاب Nudge، يصف ريتشارد ثالر Richard Thaler وكاس سنشتاين Cass Sunstein “التنبيه” كسياسة تؤثر على الناس لاتخاذ قرارات أكثر جاذبيّة عبر إشارات نفسيّة وبيئيّة واجتماعيّة.
تشمل الأمثلة وضع طعام صحّي على مستوى العين بدلاً من الوجبات السريعة. ولا يزال لدى الاشخاص إرادة حرّة – لا شيء محظور أو مفوّض – ولكن من الأسهل القيام بما هو أفضل لأنفسهم على المدى الطويل.
مثال عن التنبيه
أحد أنواع التنبيه هو جاذبية الندرة scarcity appeal، التي تستخدم عروض زمنية محدودة أو كميات محدودة لإقناع العملاء بالتوقف عن المماطلة أو تأجيل اتخاذ قرار وإجراء عملية شراء.
ينجح هذا الأسلوب، لأن المستهلكين غالبًا ما يخشون أن يندموا على عدم شراء شيء ما في المستقبل.
بعض تقنيات التنبيه
سواءً كنت تنبه نفسك أو شخصًا آخر، فمن المفيد استخدام المنبهات بشكل منتظم للحفاظ على السلوكيات المستهدفة.
كما يمكن أن يؤدي إعادة صياغة الأفكار السلبية باعتبارها أفكارًا إيجابية إلى تعزيز التحفيز، كما أن تقليل إمكانية الوصول إلى الإغراءات يمكن أن يمنع الانزلاق العكسي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الضغط الاجتماعي أداة فعالة لزيادة المساءلة لتحقيق أهداف الشخص.
هل تعتبر عمليّة التنبيه أخلاقيّة؟
يعتبر التنبيه بشكل عام فعالًا من حيث التكلفة وبسيطًا من حيث التنفيذ، ولكن هناك بعض الجدل حول الأخلاقيات المرتبطة به.
يجادل البعض بأن التنبيه يمكن أن يتلاعب بالناس في خيارات لا يفضلونها عندما يفكرون بها بشكل أعمق.
تشمل الاعتبارات الأخلاقية الأخرى طبيعة الافتراضات التي يتم تقديمها، بالإضافة إلى شفافية دوافع وسياسات الشخص أو الفرد الذي يقوم بالتنبيه.
المصدر:
هنا